د. علي عبدالعزيز العبدالقادر
[size=21]لم
تكن الأجيال السابقة التي عاشت على أرض هذا الوطن في مختلف أقاليمه، سواء
في الصحارى الشاسعة، أو على جباله وسفوحها أو في الأودية والأرياف أو على
سواحل بحاره شرقا وغربا، يكسبون رزقهم من العمل في وظائف حكومية أو في
شركات أهلية، وإنما كانوا يكسبون رزقهم بعرق الجبين ويعملون في كافة المهن
من أعلاها إلى أدناها، دون أي شعور بالخجل من العمل في أي مهنة، لأن العمل
شرف للإنسان .
وحينما
يعمل الشاب أو الشابة لكسب الرزق له وللعائلة فإنه بذلك يحفظ كرامته
وكرامة أهله من ذل الحاجة إلى الغير، ويكون محل تقدير المجتمع وتكريمه،
مهما كان عمله ومهما كان دخله المادي ومهما كانت طبيعة العمل، كالعمل في
البناء أو في الغوص أو في الفلاحة أو أي مهنة يحتاجها المجتمع، حيث يتصبب
عرق الكفاح من جبينه المشرق بنور الكرامة وعزة النفس والطموح، وسواء أكان
يمارس عملا خاصا له أو في ورشة مهنية يكتسب فيها الخبرة التي تؤهله لمستقبل
أفضل وقد تتسخ ملابسه ويداه لكنه شرف وجهاد.
إنه
يضرب أروع مثال للشباب في شعوره بالمسئولية تجاه نفسه وتجاه أسرته ويبرهن
على أن ليس هناك ما يعيب الشاب حينما يعمل في أي مهنة مهما كانت شاقة،
ومهما كانت متدنية لأنه ينفق على أسرته وأن ذلك جهاد وفيه أجر وثواب، وقد
نسب إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: (أيجلس أحدكم في بيته
ويدعو اللهم ارزقني وهو يعلم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة)، ولذا يجب أن
لا ينسى الشباب أن العمر يمضي ولا يقف عند حد وأن الشاب سوف يتزوج فهل يمد
يده لوالده ليعطيه ما ينفق به على زوجته وأولاده؟ بل إن (حرفة في اليد
أمان من الفقر)، هكذا أجاب كثير من شبابنا الجامعي الذين اشتغلوا في مهن
يندر الإقبال عليها من الشباب وإنها إجابة رائعة بل أبلغ من محاضرة نظرية
في علم الاقتصاد، ويجدر أن أتوجه إلى شبابنا من الجنسين، أن يعملوا في
المهن العديدة المتاحة، وأن يبتكروا المهن ومجالات العمل التي تخدم المجتمع
وتدر الخير والرزق على صاحبها .
وهناك قصص ليست من صنع الخيال بل من ميدان الحقيقة والواقع حيث شرف العمل والكسب :
ومنها
أنني كنت يتيم الأب حينما كنت أدرس في المرحلة الابتدائية وكانت والدتي
رحمها الله تعد ثياب طلبة العلم وأشاركها العمل بغزل الخيوط التي تعمل منها
زركشة لهذه الأثواب الخاصة بهم، مقابل عشرة ريالات في الأسبوع للإنفاق على
الأسرة وادخار الباقي، وقبل ذلك حينما كان عمري ست سنوات كنت وأخي نعد
شرابا لذيذا من عسل التمر (الدبس) ونبيعه في الحارة كل خمسة كؤوس بقرش
واحد، ونعطي من يشتري الخمسة كؤوس كأسا سادسا هدية، لتشجيع المشترين، كما
كنت أبيع الكباريت في السوق لكسب قرش واحد، إنه الكفاح من أجل لقمة العيش.
وأثناء
دراستي العليا في أمريكا كنت أعمل في مطعم الجامعة لكسب اللغة والخبرة،
كما كنت أعمل في مكتبة الجامعة مرشدا للباحثين إلى مصادر المعلومات التي
يحتاجونها لبحوثهم، وكان لي زميل أمريكي يدرس معي أحد المقررات في مرحلة
الدكتوراه مساء، ويعمل في تنظيف وصيانة أحد مباني الجامعة، وبعد سؤالي عن
عمله نهارا، أجاب بأنه يعمل ليلا ونهارا ويتابع دراسة الدكتوراه في الأوقات
المناسبة حيث تتيح الجامعة مجال الدراسة للجميع بمرونة كافية، ودعاني لأرى
طبيعة عمله بعد انتهاء المحاضرة، رافقته إلى حيث كان يعمل، فقام بارتداء
بزة العمل وبدأ تنظيف أرضية جميع الغرف والمكاتب ودورات المياه، ثم أخذ
لوازم الصيانة فتفقد جميع ما يتعلق بالكهرباء والماء وغيرها وأصلح ما يحتاج
إلى الإصلاح وأزال ما علق بالجدران من تلوث، والتفت إلي قائلا: هذا هو
عملي في المساء، أما عملي في الصباح فهو تفقد مصارف مياه المجاري، فسألته
هل يطيق رائحتها؟ فأجاب بأنه يطيق رائحتها الكريهة، ولا يطيق الجوع والفقر
لأسرته.