من فوائد الصيام
إن الله سبحانه وتعالى ما شرع هذا الصيام لأجل مس الجوع والظمأ، وما شرع هذا الصيام لأجل أن نعذب أنفسنا، بل لابد من فوائد لهذا الصيام قد تظهر وقد تخفى على الكثير، ومن هذه الفوائد:
حصول التقوى :
فإن الله لما أمر بالصيام قرنه بالتقوى، كما في قول الله تعالى: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة:183)، فجعل التقوى مترتبة على الصيام.
ولكن متى تحصل التقوى للصائم؟
التقوى هي: توقِّي عذاب الله، وتوقي سخطه، وأن يجعل العبد بينه وبين معصية الله حاجزاً، ووقاية، وستراً منيعاً.
ولا شك أن الصيام من أسباب حصول التقوى، ذلك أن الإنسان ما دام ممسكاً في نهاره عن هذه المفطرات -التي هي الطعام والشراب والنساء- فإنه متى دعته نفسه في نهاره إلى معصية من المعاصي رجع إلى نفسه فقال: كيف أفعل معصية وأنا متلبس بطاعة الله؟! بل كيف أترك المباحات وأفعل المحرمات؟!!
ولهذا ذكر العلماء أنه لا يتم الصيام بترك المباحات إلا بعد أن يتقرب العبد بترك المحرمات في كل زمان؛ والمحرمات مثل: المعاملات الربوية، والغش، والخداع، وكسب المال الحرام، وأخذ المال بغير حق، ونحو ذلك كالسرقة، والنهب، وهذه محرمة في كل وقت، وتزداد حرمتها مع أفضلية الزمان كشهر رمضان.
ومن المحرمات كذلك: محرمات اللسان؛ كالغيبة، والنميمة، والسباب، والشتم، واللعن، والقذف، وما إلى ذلك. فإن هذه كلها محرمات في كل حال، ولا يتم الصيام حقيقة، ويثاب عليه إلا مع تركها.
روى الإمام أحمد في مسنده [5/431] عن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن امرأتين صامتا فكادتا أن تموتا من العطش، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنهما، ثم ذكرتا له، فأعرض عنهما، ثم دعاهما فأمرهما أن يتقيئا فتقيئتا ملء قدح قيحاً ودماً وصديداً ولحماً عبيطاً!
فقال: (إن هاتين صامتا عما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله عز وجل عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس).
ولأجل ذلك ورد في الحديث الشريف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من الطعام والشراب، إنما الصيام من اللغووالرفث) [أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: 4/270].
وقال صلى الله عليه وسلم: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر) .. فلا بد أن يحفظ الصائم جوارحه.
روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الغيبة والنميمة، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار،ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء [ذكره ابن رجب في لطائف المعارف وغيره].
فالذي يفعل الحرام وهو صائم لا شك أنه لم يتأثر بالصوم، فمن يصوم ثم يرتكب الآثام فليس من أهل التقوى، فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.
حفظ الجوارح عن المعاصي
ومن حِكَمِ الصيام وفوائده أن الإنسان يحفظ وجدانه، ويحفظ جوارحه عن المعاصي، فلا يقربها، حتى يتم بذلك صيامه، وحتى يتعود بعد ذلك على البعد عن هذه المحرمات دائماً.
فالإنسان إذا دعته نفسه إلى أن يتكلم بالزور، أو بالفجور، أو يعمل منكراً: من سب، أو شتم، أو غير ذلك، تذكر أنه في عبادة، فقال: كيف أتقرب بهذه العبادة، وأضيف إليها معصية؟!
ليس من الإنصاف أن يكون في وقت واحد وفي حالة واحدة جامعاً بين الأمرين: الطاعة والمعصية! إن معصيته قد تفسد طاعته، وتمحو ثوابها. فالإنسان مأمور أن يكون محافظاً على الطاعة في كل أوقاته، ولكن في وقت الصيام أشد.
وكثير من الناس وقوا أنفسهم في شهر رمضان ثلاثين يوماً، أو تسعة عشرين يوماً عن المحرمات، فوقاهم الله بقية أعمارهم منها.
وكثير من الناس كانوا يشربون الخمر، أو الدخان، وما أشبه ذلك، ثم قهروا أنفسهم في هذا الشهر، وغلبوها، وفطموها عن شهواتها، وحمتهم معرفتهم لعظم هذه العبادة ألا يجمعوا معها معصية، واستمروا على ذلك الحال، محافظين على أنفسهم، إلى أن انقضت أيام الشهر وكان ذلك سبباً لتوبتهم وإقلاعهم واستمرارهم على ذلك الترك لهذه المحرمات، فكان لهم في هذا الصيام فائدة عظيمة.
وهكذا أيضاً إذا حافظ العبد على قيامه، واستمر عليه، حمله ذلك على الإكثار من تلك العبادة فإذا تعبد الإنسان بترك المفطرات، والصيام لله تعالى، دعاه إيمانه، ودعاه يقينه، وقلبه السليم إلى أن يتقرب بغيرهما من العبادات .. فتجده طوال نهاره يحاسب نفسه ماذا عملت؟ وماذا تزودت؟
تجده طوال يومه محافظاً على وقته لئلا يضيع بلا فائدة؛ فإذا كان جالساً وحده انشغل بقراءة، أو بذكر، أو بدعاء، أو يتذكر آلاء الله وآياته.
وإذا كان في وقت صلاة، صلى ما كتب له من ليل أو نهار، وإن دخلت الصلاة أقبل عليها بقلبه وقالبه، وأخذ يتأمل ويتفكر ما يقول فيها؛ فيكون الصيام بذلك سبباً في كثرة الأعمال والقربات كما يكون سبباً للمنع من المحرمات.
حمية للبدن
ومن حكمة الله تعالى في هذا الصيام أيضاً أن فيه حمية للبدن عن الفضلات.
ولا شك أن الحمية من أقوى أنواع الأدوية والعلاجات، فالصيام يُكسب البدن المناعة والقوة، كما يكسبه أيضاً تدرُّباً على الصبر واحتمال الجوع والعطش، حتى إذا ما تعرض له بعد ذلك فإذا هو قد اعتاد عليه، فكان في ذلك منفعة عظيمة.
تذكر الفقراء والذين يموتون جوعاً
ومن الحكم الجليلة التي شرع لها الصيام أن يشعر الإنسان بالجوع فترة الصيام فيتذكَّر أهل الجوع دائماً من المساكين والفقراء، ليرأف بهم، ويرحمهم، ويتصدق عليهم.
فشُرع الصيام لأجل أن يتضرع الإنسان -إذا ما أحسَّ بالجوع- فيدعوربه، كما ورد في الحديث: (إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه جبال مكة ذهباً، فقال: لا يا رب بل أرضى بأن أجوع يوماً، وأشبع يوماً، فإذا جُعْتُ تضرعتُ إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك) [أخرجه الترمذي برقم 2347 وقال حديث حسن].
فذكر أن الجوع سببٌ للتضرع والذكر. فالإنسان إذا أحس بالجوع تضرع إلى الله.
ومن الحكم في الصيام أن الإنسان يقلل من الطعام حتى يحس بأثر الجوع، فيتضرع ويدعو الله، ويتواضع له، ويكون ذاكراً له، مقبلاً إليه، متواضعاً بين يديه.
ونلاحظ كثيراً من الناس أنهم لا يحسون بأثر هذا الجوع في هذه الأزمنة، وذلك أنهم عند الإفطار يجمعون من المأكولات والمشتهيات ما يملأون به بطونهم، ويستمرون في الأكل طوال ليلهم، متلذذين بأنواع المأكولات حتى إذا ما أتى النهار وقد مُلئت بطونهم مكثوا طوال نهارهم في راحة، أو في نوم أو ما أشبه ذلك إلى أن يأتي الليل فلا يحس أحدهم بأنه صائم، ولا يظهر عليه أثر الصوم.
ومن المعلوم أن هذا الحال لم يكن من الصحابة والسلف الأولين، فإنهم كانوا يقللون من المأكل في إفطارهم وفي سحورهم، ولا يأكلون إلا ما يقتاتون به ويقيم أصلابهم، كما أنهم كانوا طوال نهارهم منشغلين في أعمالهم الدينية والدنيوية، ولذلك لا بد وأن يظهر عليهم أثر الجوع والتعب، ولكنهم يحتسبون ذلك عند الله. فينبغي للمسلم ألا يكون همه المأكل، وأن يعمل حتى يكون للصوم آثاره وفوائده.